باب مقدمة الكتاب
قدمها بهنود بن سحوان ويعرف بعلي بن الشاه الفارسي. ذكر فيها السبب الذي من أجله عمل بيدبا الفيلسوف الهندي رأس البراهمة لدبشليم ملك الهند كتابه الذي سماه كليلة ودمنة؛ وجعله على ألسن البهائم والطير صيانةً لغرضه فيه من العوام، وضنا بما ضمنه عن الطغام؛ وتنزيهاً للحكمة وفنونها، ومحاسنها وعيونها؛ إذ هي للفيلسوف مندوحة، ولخاطره مفتوحة؛ ولمحبيها تثقي، ولطالبيها تشريف. وذكر السبب الذي من أجله أنفذ كسرى أنوشروان بن قباذ بن فيروز ملك الفرص بروزيه رأس الأطباء إلى بلاد الهند كتاب كليلة ودمنة؛ وما كان من تلطف بروزيه عند دخوله إلى الهند؛ حتى حضر إليه الرجل الذي استنسخه له سراً من خزانة الملك ليلاً، مع ما وجد من كتب علماء الهند. وقد ذكر الذي كان من بعثه بروزيه إلى مملكة الهند لأجل نقل هذا الكتاب؛ وذكر فيها ما يلزم مطالعه من إتقان قراءته والقيام بدراسته والنظر إلى باطن كلامه؛ وأنه إن لم يكن كذلك لك يحصل على الغاية منه. وذكر فيها حضور بروزيه قراءة الكتاب جهراً. وقد ذكر السبب الذي من اجله وضع بزرجمهر باباً مفرداً يسمى باب بروزيه التطبب، وذكر فيه شأن بروزيه من أول أمره وآن مولده إلى أن بلغ التأديب، وأحب الحكمة واعتبر في أقسامها. وجعله قبل باب الأسد والثور الذي هو أول الكتاب. قال علي بن الشاه الفارسي: كان السبب الذي من أجله وضع بيدبا الفيلسوف لدبشليم ملك الهند كتاب كليلة ودمنة، أن الإسكندر ذا القرنين الرومي لما فرغ من أمر الملوك الذين كانوا بناحية المغرب، سار يريد ملوك الشرق من الفرس وغيرهم؛ فلم يزل يحارب من نازعه ويواقع من واقعه، ويسالم من وادعه من ملوك الفرس، وهم الطبقة الأولى، حتى ظهر عليهم وقهر من ناوأه وتغلب على من حاربه؛ فتفرقوا طرائق وتمزقوا حزائق ، فتوجه بالجنود نحو بلاد الصين؛ فبدأ في طريقه بملك الهند ليدعوه إلى طاعته والدخول في ملته وولايته. وكان على الهند في ذلك الزمان ملك ذو سطوة وبأس وقوة ومراس، يقال له فورٌ. فلما بلغه إقبال ذي القرنين نحوه تأهب لمحاربته، واستعد لمجاذبته؛ وشم إليه أطرافه، وجد في التألب عليه؛ وجمع له العدة في أسرع مدة من الفيلة المعدة للحروب، والسباع المضراة بالوثوب؛ مع الخيول المسرجة والسيوف القواطع، والحراب اللوامع. فلما قرب ذو القرنين من فور الهندي وبلغه ما أعد له من الخيل التي كأنها قطع الليل مما لم يلقه بمثله أحد من الملوك الذين كانوا في الأقاليم، تخوف ذو القرنين من تقصير يقع به إن عجل المبارزة. وكان ذو القرنين رجلاً ذا حيل ومكايد، مع حسن تدبير وتجربة، فرأى إعمال الحيلة والتمهل، واحتفر خندقاً على عسكره؛ وأقام بمكانه لاستنباط الحيلة والتدبير لأمره؛ وكيف ينبغي له أي يقدم على الإيقاع به، فاستدعى بالمنجمين، وأمرهم بالاختيار ليوم موافق تكون له فيه سعادة لمحاربة ملك الهند والنصرة عليه. فاشتغلوا بذلك. وكان ذو القرنين لا يمر بمدينة إلا أخذ الصناع المشهورين من صناعها بالحذق من كل صنف. فأنتجت له همته ودلته فطنته أن يتقدم إلى الصناع الذين معه في أن يصنعوا خيلاً من نحاس مجوفة، عليها تماثيل من الرجال، على بكرٍ تجري، إذا دفعت مرت سراعاً. وأمر إذا فرغوا منها أن تحشى أجوافها بالنفط والكبريت؛ وتلبس وتقدم أمام الصف في القلب. ووقت ما يلتقي الجمعان تضرم فيها النيران. فإن الفيلة إذا لفت خراطيمها على الفرسان وهي حامية، ولت هاربة، وأوعز إلى الصناع بالتشمير والانكماش والفراغ منها. فجدوا في ذلك وعجلوا. وقرب أيضاً وقت اختيار المنجمين. فأعاد ذو القرنين رسله إلى فور يدعوه إليه من طاعته والإذعان لدولته. فأجاب جواب مصر على مصرٍ على مخالفته، مقيمٍ على محاربته. فلما رأى ذو القرنين عزيمته سار إليه بأهبته؛ وقدم فور الفيلة أمامه، ودفعت الرجال تلك الخيل وتماثيل الفرسان؛ فأقبلت الفيلة نحوها، ولفت خراطيمها عليها. فلما أحست بالحرارة ألقت من كان عليها، وداستهم تحت أرجلها، ومضت مهزومة هاربة، لا تلوي على شيءٍ ولا تمر بأحدٍ إلا وطئته. وتقطع فورٍ وجمعه، وتبعهم أصحاب الإسكندر؛ وأثخنوا فيهم الجراح.
وصاح الإسكندر: يا ملك الهند أبرز إلينا، وأبق على عدتك وعيالك، ولا تحملهم على الفناء. فإنه ليس من المروءة أي يرمي الملك بعدته في المهالك المتلفة والمواضع المجحفة، بل يقيهم بماله ويدافع عنهم بنفسه. فأبرز إلى ودع الجند، فأينا قهر صاحبه فهو الأسعد. فلما سمع فور من ذي القرنين ذلك الكلام دعته نفسه لملاقاته طمعاً فيه؛ وظن ذلك فرصةً. فبرز إليه الإسكندر فتجاولا على ظهري فرسيهما ساعات من النهار ليس يلقى أحدهما من صاحبه فرصةً؛ ولم يزالا يتعاركان. فلما أعيا الإسكندر أمره ولم يجد له فرصةً ولا حيلة أوقع ذو القرنين في عسكره صيحة عظيمة ارتجت لها الأرض والعساكر؛ فالتفت فورٌ عندما سمع الزعقة، وظنها مكيدة في عسكره؛ فعاجله ذو القرنين بضربة أمالته عن سرجه، وتبعه بأخرى؛ فوقع على الأرض. فلما رأت الهند ما نزل بهم، وما صار إليه ملكهم؛ حملوا على الإسكندر فقاتلوه قتالاً أحبوا معه الموت. فوعدهم من نفسه الإحسان، ومنحه الله أكتافهم؛ فاستولى على بلادهم، وملك عليه رجلاً من ثقاته. وأقام بالهند حتى استوثق مما أراد من أمرهم واتفاق كلمتهم؛ ثم انصرف عن الهند وخلف ذلك الرجل عليهم. مضى متوجهاً نحو ما قصد له. فلما بعد ذو القرنين عن الهند بجيوشه، تغيرت الهند عما كانوا عليه من طاعة الرجل الذي خلفه عليهم؛ وقالوا ليس يصلح للسياسة ولا ترضى الخاصة والعامة أن يملكوا عليهم رجلاً ليس هو منهم ولا من أهل بيوتهم. فإنه لا يزال يستذلهم ويستقلهم. واجتمعوا يملكون عليهم رجلاً من أولاد ملوكهم؛ فملكوا عليهم ملكاً يقال له دبشليم؛ وخلعوا الرجل الذي كان خلفه عليهم الإسكندر. فلما استوسق له الأمر، واستقر له الملك. وكان مع ذلك مؤيداً مظفراً منصوراً. فهابته الرعية. فلما رأى ما هو عليه من الملك والسطوة، عبث بالرعية واستصغر أمرهم وأساء السيرة فيهم. وكان لا ترتقي حاله إلا ازداد عتواً. فمكث على ذلك برهة من دهره. وكان في زمانه رحل فيلسوف من البراهمة، فاضلٌ حكيمٌ، يعرف بفضله، ويرجع في الأمور إلى قوله، يقال له بيدبا. فلما رأى الملك وما هو عليه من الظلم للرعية، فكر في وجه الحيلة في صرفه عما هو عليه، ورده إلى العدل والإنصاف؛ فجمع لذلك تلاميذه، وقال: أتعلمون ما أريد أن أشاوركم فيه؟ اعلموا إني أطلت الفكرة في دبشليم وما هو عليه من الخروج عن العدل ولزوم الشر ورداءة السيرة وسوء العشرة مع الرعية؛ ونحن ما نروض أنفسنا لمثل هذه الأمور إذا ظهرت من الملوك، غلا لنردهم إلى فعل الخير ولزوم العدل